سورة الزمر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {ولئن سألْتَهُم} أي: مَن يخوفونك ممن سوى الله، وقلت لهم: {مَن خلَقَ السماواتِ والأرض لَيقولُنَّ اللهُ}؛ لوضوح الدلائل على انفراده بالاختراع. {قُلْ} تبكيتاً لهم: {أفرأيتم ما تدعون من دون الله} من الأصنام، {إِن أرادنيَ اللهُ بضُرٍّ هل هن كاشفاتُ ضُره} أي: إذا تحققتم أن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله وحده، فأخبروني عن آلهتكم، إن أرادني اللهُ بضُر هل يقدر أحد منهم على كشف ذلك الضر عني؟ {أو أرادنِي برحمةٍ} أي: بنفع {هل هن مُمسكاتُ رحمته} وصارفتها عني؟!
وقرأ البصري: {كاشفاتٌ} و {ممسكاتٌ} بالتنوين، ونصب {ضره} و {رحمته} على المفعول. وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه صلى الله عليه وسلم، للرد في نحورهم؛ حيث كانوا يُخوفونه من معرَّة الأوثان، ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة. وإنما قال: {كاشفات} و {ممسكات} على التأنيث، بعد قوله: {ويُخوفونك بالذين من دونه}؛ لأنهن إناث، وهن اللات، والعزّى، ومناة، وفيه تهكّم بهم، وبمعبودهم؛ حيث جعلهم يعبدون الإناث.
{قُل حَسْبِيَ اللهُ} أي: كافيني في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم سكتوا، فنزلت: {قل حسبي الله عليه يتوكلُ المتوكلون}، لا على غيره أصلاً؛ لعلمهم بأن كل ما سواه تحت قهر ملكوته.
الإشارة: الناس على قسمين: أعداء وأحباب، فإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن ينفعوك بشيء إلا ما قدّر الله لك، وإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن يضروك بشيء إلا ما قدّر الله عليك، فارفض الجميع، وتعلّق بالله بغنك عن غيره، ويوصل إليك ما قسم لك بالعز والهناء.


يقول الحق جلّ جلاله: {قُلْ يا قوم اعملوا على مكانَتِكُمْ} أي: على حالتكم التي أنتم عليها، وجهتكم من العداوة التي تمكنتم فيها، فالمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت من العين للمعنى، وهي الحال، كما تستعار هنا. وحيث للزمان، وإنما وضعا للمكان. وقرأ أبو بكر وحمَّادِ: {مكانات} بالجمع. {إِني عامل} على مكانتي، فحذف للاختصار، والمبالغةِ في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة بنصر الله تعالى له، وتأييده، ولذلك توعّدهم بقوله: {فسوف تعلمون مَن يأتيه عذاب يُخْزِيه}؛ فإنَّ خزي أعدائه دليل غلبته صلى الله عليه وسلم ونصره في الدنيا والآخرة. وقد أخزاهم وعذّبهم يوم بدر، {و} سوف تعلمون أيضاً مَن {يَحِلُّ عليه عذابٌ مقيمٌ} في الآخرة؛ لأنه مقيم على الدوام.
ثم ذكر الفاصل بين أهل العذاب المقيم، والنعيم الدائم، فقال: {إِنا أنزلنا عليك الكتابَ للناسِ} أي: لأجلهم، فمَن أعرض عنه فقد استحقَّ العذاب الأليم، ومَن تمسّك به استوجب النعيم المقيم، حال كونه ملتبساً {بالحق} ناطقاً به، أو: أنزلناه مُحِقين في إنزاله. {فمَن اهتدى فلنفسه}، إنما ينفع به نفسه {ومَن ضلَّ}: بأن أعرض عنه، أو عن العمل به. {فإِنما يَضِلُّ عليها}؛ لأن وبال إضلاله مقصور عليها. {وما أنت عليهم بوكيلٍ} حتى تجبرهم على الهدى، وما وظيفتك إلا التبليغ، وقد بلغت أيّ بلاغ.
الإشارة: مَن ذَكَّر قوماً فأعرضوا عنه، ولم يرفعوا له رأساً، يقول لهم: يا قوم اعملوا على مكانتكم... إلخ، وأيّ عذاب أشد من الحجاب، والبُعد عن حضرة الحبيب؟


يقول الحق جلّ جلاله: {الله يتوفّى الأنفُسَ} أي: الأرواح {حين موتِها} فيقبضها إليه قبضاً، {و} يتوفى الأنفس {التي لم تمت في منامها} فيقبضها ويترك شعاعها في البدن، فالتي قضى عليها الموت يتوفاها ظاهراً وباطناً، والتي لم يقضِ موتها يتوفاها ظاهراً فقط عند النوم، {فيُمسك التي قَضَى عليها الموتَ}، لا يردها إلى البدن، {ويُرْسِلُ الأخرى} أي: النائمة إلى بدنها عند التيقُّظ {إِلى أجلٍ مُسمًّى}: هو الوقت المضروب لموتها، فشبَّه النائمين بالموتى، حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك.
قال الإمام: النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني، إذا تعلّق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء، وهي الحياة، ثم إنه في وقت النوم ينقطع تعلُّقه عن ظهر البدن، دون باطنه، وفي وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه، فالموت والنوم من جنس واحد بهذا الاعتبار، لكن الموت انقطاع كامل، والنوم انقطاع ناقص، فظهر أن القادر الحكيم دبَّر تعلُّق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه دبَّر أمرها بحيث يقع ضوء الروح على جميع أجزاء البدن، ظاهره وباطنه، وذلك هو اليقظة.
وثانيها: بحيث يقطع عن الظاهر والباطن، وهو الموت.
وثالثها: بحيث يقطع عن ظاهر البدن دون الباطن، وهو النوم، فثبت أن النوم والموت يشتركان في كل واحد منهما بتوفي النفس، ثم يمتاز أحدهما بخواص معينة. ومثل هذا التقدير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم. اهـ.
وقال سهل: إن الله إذا توفى الأنفس أخرج الروح النوري من لطيف نفس الطبيعي الكثيفي، فالذي يتوفى في النوم من لطيف نفس الطبع، لا لطيف نفس الروح. فالنائم يتنفس تنفُّساً لطيفاً، وهو نَفَس الروح، الذي إذا زال لم يكن للعبد حركة، وكان ميتاً. وقال: حياة النفس الطبيعي بنور لطيف، وحياة لطيف نفس الروح بذكر الله. وقال أيضاً: الروح تقوم بلطيفة في ذاتها بغير نفس الطبع، ألا ترى أن الله تعالى خاطب الكل في الذر بنفس، وروح، وفهم، وعقل، وعلم لطيف، بلا حضور طبع كثيف. اهـ. قلت: وبهذا الاعتبار يقع لها العذاب في البرزخ أو النعيم، وتذهب وتجيء في عالم البرزخ.
وقال في القصد: النفس مع الروح كالجسد مع الظل، والظل يميل، والأصل لا يميل، والروح سره، والسر بربه، وهو شعاع الحقيقة الصغرى، والسر نور السر الأعلى، وكل هذا مخلوق، بقدرة الله موثوق، فلا يستفزك غير هذا فتشقى، وفي جهنم من نور البُعد تلقى. اهـ. قلت: السر الأعلى هو معاني أسرار الذات القائمة بالأشياء، وهو قديم غير مخلوق.
وذكر الثعلبي عن ابن عباس أنه قال: في ابن آدم نفس وروح، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفسُ هي التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها التحرُّك والنَّفَس؛ فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. اهـ.
هذا، وفي الصحيح: إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء. فأطلق القبض على الأرواح. والصواب: أن النفس والروح في هذا واحد؛ بدليل قوله: {اللهُ يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت} والحاصل: أن الموت: توفِّ كامل، بإخراج الروح مع شعاعها من البدن، فتذهب الحياة، والنوم: توفٍّ ناقص، بإخراج الروح مع بقاء شعاعها في البدن، به الحياة والتنفُّس.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً أنه قال: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، ويتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد الله رجوعها إلى الأجسام، يُمسك الله عنده أرواح الأموات، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها، فذلك قوله عزّ وجل: {الله يتوفى الأنفس}... الآية.
وعبارة عز الدين بن عبد السلام: في كل جسد روحان؛ إحداهما: روح اليقظة، التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان متيقظاً، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان، ورأت تلك الروح المنامات، والأخرى: روح الحياة، التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حيّاً؛ فإذا فارقته مات، فإذا رجعت إليه حَيِيَ، وهاتان الروحان في بطن الإنسان، لا يعلم مقرَّهما إلا مَن أطلعه الله عليهما، فهما كجنينين في بطن امرأة. اهـ.
والآية منبهة على كمال قدرته، وفيها دلالة على البعث، وأنه كاليقظة سواء، وهذا معنى قوله: {إِن في ذلك لآياتٍ يتفكرون} في عجائب قدرته، فيعلمون أن مَن قدر على إمساك الأرواح في النوم، وردها، قادر على إماتتها وإحيائها. وفي التوراة: كما تنام تموت، وكما تستيقظ تُبعث.
الإشارة: الله يتوفى الأنفس المطهرة إلى حضرة قدسه، حين موتها من الهوى، ويقبض الأنفس التي لم تمت من حظوظها في سجن الأكوان، وهيكل ذاتها، في حال منام غفلتها، فيمسك التي قضى عليها الموت في حضرة قدسه، فلا يردها إلى شهود حضرة الأشباح ويرسل الأخرى تجول في حضرة الأشباح وأودية الدنيا، إلى أجل مسمًّى، إما موتها الحسي أو المعنوي، إن سبقت لها سابقة عناية.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10